فظائع الإبادة الجماعية في غزة- حرب الصورة بين التزييف والواقع

المؤلف: حُسام شاكر11.10.2025
فظائع الإبادة الجماعية في غزة- حرب الصورة بين التزييف والواقع

تتسم الإبادة الجماعية المروعة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة المحاصر (2023-2024) بكونها حربًا دامية تتجلى أمام أنظار العالم أجمع، حيث تلاحقها الكاميرات من كل حدب وصوب، وتتصارع فيها الصور والمشاهد بكل ضراوة. فمن جهة، توجد صور ومقاطع دعائية زائفة، مُفبركة بإتقان، تتواطأ بشكل سافر مع جرائم الاحتلال البغيضة. ومن جهة أخرى، هناك صور ومقاطع فيديو تحاول أن تكشف النقاب عن ممارسات التعتيم والتضليل الممنهجة، وقد يتم انتزاعها من خوذة جندي يحمل كاميرا أو استخلاصها من ذاكرة طائرة مسيرة إسرائيلية تم الاستيلاء عليها.

تتوالى المشاهد المروعة المُسربة من كاميرات جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي توثق الفظائع التي كان يُراد لها أن تبقى طي الكتمان. تتجلى في هذه المشاهد أبعاد جديدة ومناظر مروعة للإبادة المستمرة، على عكس المشاهد النمطية التي تروج لها آلة الدعاية العسكرية الإسرائيلية.

مقاطع مجزرة الطحين مثالاً

عندما حاول جيش الاحتلال تبرير مجزرة الطحين الوحشية التي ارتكبها بحق حشود الفلسطينيين الجياع قرب دوار النابلسي في مدينة غزة، مساء يوم 29 فبراير/شباط 2024، لجأ إلى ترويج مشاهد ملفقة ومضللة. تعارضت الروايات المتضاربة الصادرة عن قادة الحرب والمتحدثين باسم جيش الاحتلال بشأن ملابسات قتل ما لا يقل عن 118 فلسطينيًا وإصابة 760 آخرين في تلك الواقعة المروعة التي أحرجت بشدة داعمي الاحتلال وجيشه على جانبي الأطلسي. لكن تلك الروايات اتفقت جميعها على مغزى مشترك وهو التنصل الكامل من المسؤولية وإلقاء اللوم على الضحايا وتجريد هؤلاء البشر من إنسانيتهم، علماً أنهم تجمعوا فقط للتزود بما يسد رمق أطفالهم في ظل حرب التجويع المروعة التي تشن عليهم.

تحولت الأنظار إلى تحليل المادة المصورة التي روجها جيش الاحتلال، وسرعان ما اتضح أن مشاهده الجوية الملتقطة ليلًا مفبركة بشكل واضح، فهي مجتزأة وغير متسقة فيما بينها، بالإضافة إلى أنها تتعارض مع ادعاءات المتحدثين باسم الجيش وقادة الحرب الإسرائيليين. لكن الرسائل الخفية الكامنة في تلك المشاهد تتجاوز المضمون الفعلي الذي تشتمل عليه. ففيها يظهر الضحايا على هيئة نقاط صغيرة متحركة على الأرض، فماذا يوحي ذلك؟

إنها مشاهد مصورة من منظور علوي بعيد، وهي مثالية تمامًا لطمس الصفة البشرية لهذه "الكائنات المتحركة". كانت تلك المشاهد بمثابة ترويج بصري أريد منه أن يدعم دعاية الإبادة من وجه مخصوص أيضًا، فمن شأن الانطباعات الإيحائية التي تبعث بها هذه المشاهد أن تحيد أي فرصة للتفاعل الوجداني مع الحدث، فكاميرا جيش الإبادة واكبت "تجمعات حيوية" معينة لا تكاد تختلف في التلقي الإدراكي لأبعادها ومواصفات مشهدها عن أي مستعمرة حشرية، وهذا يحرض الذائقة البصرية والحس الجماهيري على استسهال الإجهاز عليها جماعيًا وكأنها وادي نمل!

من المرجح أن لدى جيش الاحتلال مشاهد أخرى مصورة عن مجزرة الطحين الفظيعة تلك، لكنه اختار اقتطاع بعض المشاهد الجوية المنتقاة وحسب، وتجاوز ما تصوره آلياته المدرعة ومراصد المراقبة التي تتبعه في الميدان؛ لأنها ستفضح ما ارتكبه بحق حشود الفلسطينيين العزل في نقطة توزيع المساعدات عند دوار النابلسي. علاوة على أن التصوير الأفقي يمنح الحالة الإنسانية والمأساوية فرصة اقتراب وحضور في المشهد بخلاف التصوير الرأسي البعيد من الجو.

تجلّى هذا الفارق الجوهري من خلال المشاهد التي بثتها قناة "الجزيرة" من ميدان مجزرة الطحين، وفيها تكشفت جوانب من وقائع إطلاق النار العشوائي من جانب مدرعات جيش الاحتلال صوب الحشود البشرية. كما أن امتياز الاقتراب والتصوير الملون في مشاهد "الجزيرة" الليلية، أوضح انفعالات إنسانية استثارتها المجزرة الوحشية. وضعت كاميرا "الجزيرة" المشاهدين حول العالم في قلب الميدان ويسرت لهم مشاركة الحشود تجربة الاحتماء الرمزي من نيران القصف الوحشي، فلا يستوي في وقع المشهد المرئي أن يكون الجمهور في زاوية الجاني الذي يقصف، كما في مشاهد جيش الاحتلال الدعائية، وفي زاوية الضحية التي تباد، كما في مشاهد الرصد الصحفي الأمين على الأرض.

لم تكن صور جيش الاحتلال الجوية لمجزرة الطحين مصادفة عابرة، ذلك أن الرسائل البصرية التي تبعث بها دعايته من الميدان الغزي تلتزم الحرص على تعطيل أي فرصة إحساس بإنسانية الضحايا الفلسطينيين، الذين هم في رواية قادة الحرب والإبادة مجرد "وحوش"، أو "حيوانات بشرية"، كما قيل -تصريحًا- بالعبرية: "حايوت آدام"!.

الأفضلية لمشاهد القصف الجوي

دأب جيش الاحتلال الغاشم على ترويج مشاهد القصف الجوي النمطية بالأبيض والأسود كل يوم، فهي تمنحه أفضلية معينة من خلال الانطباع الذي تشكله عن الكفاءة المزعومة في إنجاز المهام الميدانية ودقة التعقب والاستهداف من خلال إحداثيات معينة، على الرغم من أن فعل القصف أتى على معظم المنشآت المدنية والمنازل في قطاع غزة إجمالًا، وجدد العهد بتقاليد الأرض المحروقة.

ثمّة امتياز آخر تجود به الصور الجوية على دعاية الجيوش الحديثة؛ هو أنها تساعد على حجب التعاطف عن المستهدفين، فالأهداف الثابتة أو المتحركة التي تظهر في التصوير الجوي تبدو مجردة من المواصفات البشرية الواضحة التي يمكن الإحساس بها، كما تغيب بالأحرى متطلبات الأنسنة، إذ لا تظهر وجوه أو ملامح أو انفعالات قد تحرك تماثلاً وجدانيًا مع من يسقطون في الميدان أو يستبسلون، ويمكن في هذا المقام ملاحظة المفعول العكسي لمشهد اغتيال المقاوم الساجد الذي ظهر للجمهور في هيئة ملحمية عندما اتضحت التفاصيل.

ثم إن الجمهور الذي يتلقى هذه الوجبات الدعائية المصورة يوضع وجدانيًا في قمرة التحكم التي تتحفز للإقدام على الاستهداف. يعايش المشاهدون خطوات تحديد الهدف الواقع في مرمى التصويب، ثم الضغط على زر التحكم، فانطلاق القذيفة القاتلة والمدمرة التي يرى أثرها المصور بصفة بصرية صامتة وحسب؛ رغم سحابة الدخان والغبار الرمادية التي تظهر فجأة.

تتملق هذه المعايشة البصرية خبرة الاستهداف في عالم الألعاب الإلكترونية والشبكية، فيصير مشاهدو دعاية الحرب النمطية المصورة في موقع اللاعب الذي يصوب من بعيد، أي أن الجمهور يستدرج وجدانيًا إلى خندق الطرف المهاجم وتعطل فرصة انبثاق أي مشاعر تعاطف محتملة مع الهدف البشري أو المادي الذي وقع استهدافه، وكأن عليه أن يطلق صيحته المعهودة بعد الاستهداف الدقيق المزعوم: واو!.

كثير من الصور والمشاهد المحجوبة

تبقى صور القصف الجوية بالأبيض والأسود مثالية لدعاية حرب الإبادة الوحشية، فهي بمواصفاتها المعتمة والتقاطتها البعيدة ومنظورها العلوي فوق القامات لا تمنح إنسانية الضحايا أي فرصة للظهور في المشهد. والواقع أن الرواية المصورة التي يدفع بها جيش الاحتلال عن وقائع الاستهداف على الأرض تقوم على انتقائية محبوكة وملفقة، فالمشاهد تختار بعناية من فيض المواد المصورة المختزنة في أوعية حفظ البيانات، ويشترط فيها عادة أن تكون مشوشة ومنزوعة الإنسانية أيضًا.

فهذا الجيش يمارس حرب إبادة وحشية في رقعة ضيقة تعد الأكثر رصدًا وتصويرًا في العالم من الأجواء، فطائرات الاستطلاع والمراقبة تحوم على مدار الساعة فوق كل بقعة من قطاع غزة، وترصد بكاميرات مطورة كل ثابت ومتحرك على الأرض.

ولا شك أن كثيرًا من المشاهد التي تراها عيون ضباط الجيش وجنود الوحدات المختصة بالرصد والتعقب تتأهل لمعايشة الوقائع الإنسانية على الأرض وإن جاءت من منظور علوي عادة، لكن ما ينشر في نهاية المطاف يشترط فيه تغييب فرص الأنسنة وطمس جرائم الحرب، وإظهار الاقتدار الميداني المزعوم.

كثيفة هي المواد المصورة التي يصر جيش الاحتلال على حجبها عن الجمهور؛ لأنها لا تخدم روايته الدعائية، ومما يعزز هذا الاستنتاج تلك المشاهد المتزايدة التي تتمكن المقاومة الفلسطينية الباسلة من تفريغها من ذاكرة مسيرات الاحتلال بعد إسقاطها أو من كاميرات الخوذ الخاصة بجنود الاحتلال بعد الاستيلاء عليها.

تمثل المشاهد الدعائية المنتقاة بعناية التي ينشرها جيش الاحتلال مادة شحيحة للغاية من فيض التوثيق المصور وبمواصفات عالية الجودة، الذي يحوزه في الواقع. فعيون الاحتلال مفتوحة على رقعة قطاع غزة رصدًا وتصويرًا، وفي محفوظات الذاكرة المختزنة ما يكفي لجر قادة الاحتلال وضباطه وجنوده إلى محاكم جرائم الحرب، علاوة على ما يظهر إنجازات ميدانية محققة يحرزها المقاومون الفلسطينيون الأبطال.

ومن واقعية التقدير أن يستنتج حيازة الاحتلال توثيقات مصورة عالية الدقة لكثير من خسائره الفادحة، ومنها مشاهد يتأبى على عرضها عن فعل قذيفة "الياسين 105" بدبابات "ميركافا" وناقلات "النمر" مثلًا، أو مقاطع مصورة تظهر انهمار قذائف الهاون على آلياته وتفجير حقول ألغام ومنازل مفخخة بجنوده، أو جر عربات جيش وأشلاء جنود من الميدان، ووفرة من غير ذلك على الأرجح.

مشاهد من ذاكرة المسيّرات

أتاح تفريغ ذاكرة مسيّرات استولت عليها المقاومة الفلسطينية، الحصولَ على إطلالات استثنائية على سلوك اقتراف الفظائع، وتجلّى للعيان كيف يتتبّع جيش الاحتلال الضحايا المدنيين العزّل الذين يفتك بهم في المناطق المفتوحة برصاص القنّاصة أو بالقصف الجوي.

أظهرت مشاهد بثّتها "الجزيرة" في العاشر من مارس/ آذار 2024 قنص جنود الاحتلال فتى فلسطينيًا في محيط مدرسة "الفاخورة" بمخيم جباليا شمالي قطاع غزة. جرى الحصول على هذه المشاهد من ذاكرة مسيّرة إسرائيلية استولت عليها المقاومة في ديسمبر/ كانون الأول 2023.

كشفت المشاهد كيف صوّرت المسيّرة الفتى الأعزل وهو مضرّج بدمائه بعد أن قنصه جنود الاحتلال، وكيف تعمّد مشغِّلو المسيّرة في غرفة التحكّم التي تتبع جيش الاحتلال تصويره عن قُرب ومسح المنطقة المحيطة به. يكشف هذا المشهد وحشية القنص الإسرائيلي بحق فتى أعزل، وتعمُّد تركه ينزف دون إتاحة فرصة لإسعافه، ومواكبة الجيش هذه الجريمة عن قُرب، ولابدّ أنها مجرّد عيِّنة من تقاليد الممارسة الميدانية في حرب الإبادة.

تجّددت هذه التجربة الجوية يوم 21 مارس/ آذار 2024 عندما عرضت "الجزيرة" مشاهد حصرية تظهر استهداف مسيّرة تتبع جيش الاحتلال أربعة مدنيين فلسطينيين عزّل، في منطقة السكّة الواقعة في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. التقُطت المشاهد من مسيرة إسرائيلية استولت عليها المقاومة الفلسطينية في بداية فبراير/ شباط. تكشف المشاهد كيف لاحقت المسيّرة الشبان الأربعة الذين كانوا يتحرّكون وهم عُزّل في منطقة مفتوحة، ثمّ استهدفتهم تباعًا بعدّة صواريخ حوّلتهم إلى أشلاء في سلسلة من الضربات الجوية.

قدّمت مشاهد منطقة السكّة فرصة لمعايشة بعض تقاليد الإبادة الجارية، فالقتل العمد استهدف هؤلاء الشبّان الذين لم يشكِّلوا أيّ خطر على جيش الاحتلال خلال سيْرهم المتعثِّر فوق طريق جرّفها الجيش بحثًا عن بقايا منازلهم التي دمّرها الاجتياح. تبيّن للمرّة الأولى عبر تصوير جوّي ملوّن عالي الجودة كيف يطارد الجيش المدنيين العزّل، وكيف يقرِّر الإجهاز عليهم بهذه الوحشية عبر وسيط تقني يتحكّم به مشغِّلوه في غرف القيادة.

إنها قطوف يسيرة من فيض الوحشية المحجوبة في أوعية الذاكرة المصوّرة، المحفوظة لدى جيش الاحتلال، وتكفي المشاهد الشحيحة التي تتسرّب منها بعد الاستيلاء على المسيّرات لإحداث وقع صادم تنتفض له المشاعر الإنسانية السوية. شوهد الشبان الأربعة في المشاهد الواضحة الملوّنة وقد صاروا أشلاء مقطّعة واحدًا تلو الآخر دون أن يكون من تفسير لهذا القتل الوحشي سوى إرادة الإبادة التي لا ترى للفلسطيني حقًّا في الحياة.

مشاهد من خوذ الجنود

يكمن التباين الجوهري بين المواد التي يتم استخلاصها من ذاكرة الطائرات المسيرة وتلك الملتقطة من كاميرات مثبتة على خوذات الجنود، في كون الأخيرة تتميز بمنظور عمودي في التصوير، بالإضافة إلى الاقتراب المباشر من تفاصيل الأحداث الميدانية.

منحت مقاطع الفيديو المستخرجة من كاميرا مثبتة على خوذة أحد جنود الاحتلال فرصة فريدة لرؤية مباشرة لبعض مهام القتل الوحشية. عرضت قناة "الجزيرة" هذه المقاطع في الثامن من مارس/آذار 2024، وكشفت تفاصيل حادثة مروعة وقعت قبل ذلك بأربعة أشهر.

أظهر المقطع اقتحام جنود مدججين بالسلاح لمنزل في غرب مدينة غزة، حيث وجدوا مسنًا فلسطينيًا يبلغ من العمر ثلاثة وسبعين عامًا ويعاني من ضعف شديد في السمع والنطق. أطلق أحد الجنود النار عليه أربع مرات، على الرغم من أن الضحية لم يكن يشكل أي خطر على أحد، بل لوح بيديه ليظهر أنه أعزل وغير قادر على الكلام. تفاخر الجندي أمام زملائه بالفظاعة التي ارتكبها للتو، وحظي منهم بثناء وإعجاب كبيرين. لم يعر الجنود أي اهتمام للمسن الممدد على الأرض بجانب السرير عندما صعدوا إلى غرفة نومه التي قتل فيها بوحشية، بينما كانت كاميرات الخوذ ترافق أفعالهم وتوثق ما يرونه ويتحدثون عنه.

تبين لاحقًا أن المسن المغدور هو عطا إبراهيم المقيد، من سكان مخيم الشاطئ، وهو غير متزوج وانقطعت أخباره عن ذويه. يبدو أنه لجأ بعد تدمير المخيم إلى المسكن الفارغ في غزة الذي تحول إلى مسرح للجريمة المصورة التي ارتكبت في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 2023. سيبقى رأس المسن الغزي عطا، المتدلية فوق جسده النحيل الملطخ بالدماء، شاهدًا على بشاعة حرب الإبادة التي تستهدف الشعب الفلسطيني في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.

قدمت هذه المشاهد المستخرجة من كاميرا الخوذة العسكرية نظرة استثنائية على ثقافة القتل السائدة في الميدان، وكشفت عن تفشي الحمى الوحشية في صفوف جيش الاحتلال إلى درجة الاحتفاء الواضح بقتل مسن فلسطيني أصم وأبكم وهو في غرفة النوم على الرغم من أنه لوح بيديه للتعبير عن أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة.

شكلت التعابير اللفظية ولغة الجسد المرئية خلال حديث الجنود عن هذه الجريمة انطباعًا عن اليوميات الواقعية في جيش الإبادة، كأن يقول جندي لرفيقه: "قتلته؟ ممتاز!" مع الكثير من الإيماءات الداعمة للفعلة الشنعاء. لكن الخيار المفضل للجنود كان القصف بالسلاح الثقيل ليكفيهم عناء التحرك في المبنى، لكن "خدمة تفجير المكان بمن فيه" لم تتوفر لهم في تلك اللحظة، كما ورد في الحوار الموثق بالصوت والصورة.

تبقى هذه الحالة المصورة على فظاعتها مجرد عينة مفردة من أعمال القتل الوحشي التي أسرف جنود الاحتلال في اقترافها خلال حرب الإبادة. من المرجح أن خوذ الجنود تحتفظ بذاكرة مصورة توثق جرائم قتل جماعي ارتكبوها في العديد من الشقق السكنية بحق نساء وأطفال ومسنين حسب شهادات متواترة.

يحرص جيش الاحتلال على إبقاء هذه المشاهد ومثيلاتها الكثيرة جدًا محجوبة عن التداول، وقد يعمد إلى إتلاف بعضها حسب تقاليد الجناة المحترفين مع إثباتات القتل الذي يقترفونه.

يبقى جيش الاحتلال هو الجيش ذاته عندما يمارس الفظائع بعيدًا عن مسرح قطاع غزة، حيث تتلاحق المشاهد الصادمة التي توثقها كاميرات فلسطينية في الضفة الغربية، باستخدام هواتف محمولة من داخل سيارة عند حاجز عسكري أو عبر نافذة بيت ترصد توغلات الجنود.

تقدم كاميرات المراقبة التي لا ينتبه جيش الاحتلال لوجودها توثيقًا مصورًا لأعمال شنيعة، مثل ما رصدته في أحد شوارع مخيم جنين يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023. أظهرت مقاطع مصورة وكاميرات مراقبة في المخيم لحظات إعدام جنود الاحتلال الطفليْن آدم سامر الغول (8 سنوات) وباسل سليمان أبو الوفا (15 سنة) بإطلاق نار وحشي وتركهما ينزفان حتى الموت، واستهداف كل من يسعى لإسعافهما. شوهد في المقاطع أحد الطفلين يسقط بعد إصابته برصاصة إسرائيلية في الرأس خلال وقوفه أمام منزله في شارع البساتين، وأجهز الرصاص الإسرائيلي على طفل آخر، وبقي امتياز الواقعة عن غيرها في حقيقة أنها مصورة، لكنها تبقى غيضًا من فيض جرائم الحرب المتواصلة في الضفة الغربية.

نزع الإنسانية عن الضحايا

لا تقوى دعاية الاحتلال الفاشي على ترويج شواهد مرئية تطفح بها أوعية الذاكرة المختزنة في مقار الاستطلاع والرصد والتعقب والاستهداف. ومن الواضح أن القابعين في تلك المقار لا يقيمون أي اعتبار لإنسانية الضحايا الذين يتساقطون على مدار الساعة في حصيلة شهرية تتجاوز عشرين ألفًا من الشهداء والجرحى حسب المعدل المرصود في نصف سنة.

لا فرصة لخفقة قلب أو يقظة ضمير في غرف التحكم، فقد نزعت الإنسانية عن الشعب الفلسطيني ابتداءً، وصنفت حملة الإبادة الوحشية من جانب قادة الاحتلال على أنها "حرب مصيرية، وحرب استقلال ثانية"؛ أي أنها نكبة ثانية للشعب الفلسطيني، أو بتعبير وزير الزراعة المخضرم آفي ديختر "هذه نكبة غزة 2023" في حديثه للقناة 12 العبرية يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني. وقيل في خطابات قادة الحرب: "إما نحن أو هم"، ما يعني ضمنًا أن "إبادتهم ضرورة لبقائنا".

مما يغري بمزيد من تخدير الضمائر أن تمارس الوحشية عبر وسيط تقني، فالجالسون في غرف التحكم يقترفون الإبادة عن بعد ويفتكون بالبشر من كل الأعمار دون الاضطرار إلى حمل سكاكين لحز الرؤوس أو سواطير لفلق الجماجم، وليسوا مضطرين حتى لارتداء سترة وقفازات خلال تقطيع البشر؛ لأن الشظايا الدامية ستبقى بعيدة عنهم. يتدخل الوسيط التقني الذي يستخدمونه في تمكين الوهم من أذهانهم ووجدانهم بأنهم ليسوا متوحشين، فالآلة هي التي تقتل، وكأنهم مجرد خبراء أنظمة محوسبة يجلسون إزاء الشاشات ثم يخرجون لاستراحات ارتشاف القهوة.

لكن الوحشية بلغت بجيش الاحتلال مبلغًا تجاوز هذا المنسوب واستحالت ثقافة عامة في صفوفه حسب مؤشرات متضافرة، فالجنود يمارسون الفظائع بصفة مباشرة أيضًا على الأرض، كما في مأساة المسن عطا المقيد، ولدى قياداتهم فيض هائل من المشاهد المروعة عما يقترفه الضباط والجنود في الميدان، لكنهم يحظرون تمريرها إلى الجمهور وتداولها إعلاميًا.

سادية مصوّرة

تدفع دعاية الاحتلال الآثم، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بمشاهد ملونة من الميدان، يظهر في بعضها الجنود في حالات متعددة وهم يتحصنون في مكان ما أو يطلقون النار أو يقومون بتفخيخ منشآت وأنفاق. يغيب الفلسطيني عن هذه المشاهد التي يبدو فيها الجنود غالبًا في هيئة تمثيلية مفتعلة تثير الشكوك الجدية بمصداقية وقائع الاشتباك المصورة.

جرى إظهار الفلسطينيين في مقاطع أخرى، دفعت بها دعاية الاحتلال، وهم – في طوابير أو صفوف – مجردون من معظم ملابسهم، ومعصوبو العيون ومقيدو الأيدي، وفي وضعيات مهينة للكرامة الإنسانية.

انطوت هذه المشاهد المحبوكة على افتعال واضح وضوح الشمس، فدعاية الاحتلال تزعم عادة أنها لمقاومين فلسطينيين استسلموا للجيش، ثم يتأكد لدى التدقيق في الوجوه أنهم مدنيون فلسطينيون عزل وبعضهم كهول بلا لياقة ميدانية، وأسماؤهم وأعمالهم معروفة في المجتمع المحلي. فرض الجنود تحت التهديد على أحد الكهول أن يتقدم لتسليم سلاح أرغموه على حمله، وهو عاري البدن، فظهر المشهد بنسختين اثنتين غير متوافقتين!.

أثارت هذه المشاهد سخطًا عارمًا لدى متابعين حول العالم، فانتشرت تصميمات بصرية في مواقع التواصل الاجتماعي؛ تنديدًا بهذه المشاهد السادية، وعمد متظاهرون إلى محاكاة هذا السلوك في الميادين، كما جرى ذات مرة قبالة السفارة الأميركية في العاصمة الأيرلندية دبلن؛ بهدف فضح سلوك الاحتقار الذي يمارسه جيش الاحتلال ولإبداء التضامن مع هؤلاء الفلسطينيين العزل.

يمكن الافتراض بأن هذه المشاهد تحديدًا لم تكن مخصصة للاستهلاك العالمي، لكنها بلغت الآفاق من تلقائها في زمن لا يمكن التحكم فيه بنطاق "الفئة المستهدفة"، فألحقت أذى إضافيًا بصورة الاحتلال وسمعة جيشه الملطخة بالعار في الخارج.

من الواضح أن دعاية الجيش حاولت عبر هذه المشاهد الإمعان في كي الوعي الذي يستهدف معنويات الشعب الفلسطيني من خلال افتعال مواقف إذلال بحق الرجال الفلسطينيين وتصويرها وترويجها، في استقواء جبان على المدنيين العزل يبتغي امتهان كرامتهم الإنسانية، وكذلك تعزيز معنويات مجتمع الاحتلال الذي شاهد جنود جيشه وهم يجرون في حالة ذهول وانكسار من داخل الثكنات وجوف الدبابات يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على أيدي مقاومين فلسطينيين مرفوعي الرؤوس.

ثمّة تجلِّيات أخرى للسادية المصورة، تتمثل في مقاطع فردية مخزية يخرج بها جنود الاحتلال من الميدان ويدفعون بها عبر منصات التواصل. يتولد الانطباع بأن بعض هذه المقاطع تحظى برعاية الجيش أو ترحيبه، أو تأتي بتوجيه مباشر أو غير مباشر منه، أو أنه يتغاضى عنها لأهداف دعائية وعملانية، بينما يخرج بعضها عن المسار المرسوم للجنود أو يتعارض مع تعليمات القيادة؛ لأنه يلحق خسائر دعائية وأضرارًا معنوية فادحة بمربع الاحتلال، حتى إن بعض المشاهد التي صورها جنود أظهرت حالات هلع وصدمة وإصابات بينهم.

تطفح المنصات الشبكية بالمقاطع المرئية التي تصور مواقف تفريغ الكبت الميداني وإحباطات واقع القتال، وسلوك التعويض عن مشاعر جزع وانكسار تتخلل جيش الاحتلال. نشر العديد من الجنود مشاهد عابثة من داخل منازل المواطنين الفلسطينيين بعد ترويعهم وتشريدهم وقتلهم، فظهروا في مشاهد لهو أو أفرغوا محتويات الخزائن لإظهار ملابس داخلية نسائية والتقطوا صورًا "ذكورية" مهينة للمرأة.

كما خرجت صور ومقاطع بينت تعمد الجنود إتلاف مواد غذائية، بينما تتصاعد المجاعة بين الفلسطينيين من حولهم. وظهر جنود في مقاطع تمثيلية متعددة، سخر أحدها من أحوال البيوت المدمرة عبر فتح باب في جدار هو وحده ما بقي من أحد المنازل، ومثل جنود دور المعلم والتلاميذ في غرفة صفية داخل مدرسة دمرها جيش الاحتلال، بينما ظهر جندي آخر في متجر لبيع القرطاسية ولعب الأطفال وهو يمثل دور البائع ويباشر تحطيم كل شيء في سلوك هستيري أهوج. أضيفت هذه وسواها إلى مقاطع اللهو بقصف البيوت وتدميرها وإهداء هذه المشاهد عبر مواقع التواصل إلى الأزواج والأبناء في المناسبات الاجتماعية.

مقاطع أنسنة الإبادة وتأنيث الجيش

نظرًا لأن جيش الاحتلال يخوض حملته الوحشية في زمن الصورة والمقطع والأجهزة المحمولة ومواقع التواصل، فإن منظومته الدعائية تحفز إقدام الجنود على ترويج مشاهد سخيفة تصلح لمسعى أنسنة الجيش وتخفيف وطأة حرب الإبادة على الجمهور حول العالم. تتجند في خدمة هذا المسعى الدؤوب وفرة من المقاطع التي تصور مواقف ساخرة أو يراد منها أن تبدو ظريفة، دون أن يعني ذلك أنها تصدر من تلقائها بتوجيه من دعاية الجيش.

ومن عادة جيش الاحتلال أن يوظف الفتيات في دعايته المضللة، مستفيدًا من خصوصية هذا الجيش في التجنيد الواسع والإلزامي للنساء بالقياس إلى جيوش العالم الأخرى. فإن كان مشهد جنود الجيش من لوازم "الصورة السياحية" النمطية لزائري فلسطين المحتلة، حيث يشاهدون بكثافة في المدن والبلدات وعند مفترقات الطرق؛ فإن المجندة بزيها الزيتوني وسلاحها المحمول ظلت نموذجًا مثاليًا لهذه الصورة الترويجية.

حرصت مواد الجيش الدعائية على إبراز فتيات مجندات بمواصفات شكلية معينة في ملصقاته ومقاطعه وأفلامه ومواده الترويجية المباشرة وغير المباشرة. ومع صعود دور مواقع التواصل شاع إقدام المجندات على نمط جديد من النشر الذاتي، يروج صورًا ومقاطع ويبثها عبر الشبكة، وتسبب بعضها بفضائح مخزية من داخل الثكنات أو عبر بعضها عن سلوك سادي نحو المواطنين الفلسطينيين عند بعض الحواجز.

برز دور مقاطع المجندات بقوة خلال حرب الإبادة، وفيها تظهر المجندات ببزات عسكرية وأسلحة مخصصة لاقتراف الفظائع خلال تأدية أدوار مفتعلة وكأنهن في نزهة ترويح أو رحلة تخييم شبابية. تعمل هذه المقاطع ليس فقط على أنسنة الجيش؛ وإنما على تأنيث صورته أيضًا. فمن يظهرن في المقاطع ينتمين إلى تقاليد جيل "إنستغرام" و"تيك توك" ويتقمصن حركات ظريفة ورقصات معولمة أو يتصرفن وفق النمط الاستهلاكي للمجتمعات الحديثة، بما في ذلك الحرص على التدقيق في مواصفات الوجبة، مثل الاحتفاء بطلبية وجبة سريعة من شطائر البرغر، وارتشاف المرطبات، دون أن يفارقن الزي العسكري وآلة القتل بطبيعة الحال.

إنها تدخلات بصرية محبوكة أو تلقائية من جانب جيش الاحتلال وجنوده الضالعين في جرائم العصر الرهيبة، ولا غنى لدعاية هذا الجيش عن جهود الافتعال المصور وهو يخوض حربه الوحشية التي دخلت التاريخ بصفتها إبادة مصورة على مدار الساعة، وفي ظلالها تتشابك الصورة مع الصورة والمشهد مع المشهد والتزييف مع الواقع الذي لا يمكن طمسه إلى الأبد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة